فصل: تفسير الآيات رقم (11- 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير، قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأوّل، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه‏.‏ و‏{‏سواء‏}‏ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، «والهمزة وأم» مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله‏:‏ سواء، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال‏:‏ الإنذار وعدمه سواء، كقولهم‏:‏ تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه‏:‏ أي سماعك‏.‏ وأصل الكفر في اللغة‏:‏ الستر والتغطية، قال الشاعر‏:‏

في ليلة كفر النجوم غمامها *** أي‏:‏ سترها، ومنه سمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان‏.‏ والإنذار‏:‏ الإبلاغ والإعلام‏.‏

قال القرطبي‏:‏ واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل‏:‏ هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره‏.‏ أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً‏.‏ وقال ابن عباس والكلبي‏:‏ نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي‏:‏ هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يؤمنون‏:‏ أي‏:‏ هم لا يؤمنون‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض‏.‏ انتهى‏.‏ والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود‏.‏ وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ إن خبر إن ‏{‏سواء‏}‏، وما بعده يقوم مقام الصلة‏.‏ وقال محمد بن يزيد المبرّد‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ رفع بالابتداء، وخبره ‏{‏أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏، والجملة خبر «إن»‏.‏ والختم‏:‏ مصدر ختمت الشيء، ومعناه‏:‏ التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب، والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غيره‏.‏ والغشاوة‏:‏ الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا‏:‏ هما المعنويان لا الحسيان، أي‏:‏ لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك، استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه‏.‏

وقد اختلف في قوله تعالى ‏{‏وعلى سَمْعِهِمْ‏}‏ هل هو داخل في حكم الختم، فيكون معطوفاً على القلوب‏؟‏ أو في حكم التغشية، فقيل‏:‏ إن الوقف على قوله ‏{‏وعلى سَمْعِهِمْ‏}‏ تامّ، وما بعده كلام مستقلّ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرئ «غشاوة» بالنصب‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره‏:‏ وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محلّ ‏{‏وعلى سمعهم‏}‏، كقوله تعالى ‏{‏وَحُورٌ عِينٌ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 22‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

علفتها تبناً وماءً بارداً *** وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير والعذاب‏:‏ هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة‏:‏ أعذبه عن كذا‏:‏ حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء؛ لأنها حبست في الإناء حتى صفت‏.‏ وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول‏.‏ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية‏:‏ أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك ‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال‏:‏ نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ قال‏:‏ فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان‏:‏ أبو سفيان والحكم بن العاص‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ أوعظتهم أم لم تعظهم‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال‏:‏ أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال‏:‏ الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال‏:‏ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم‏:‏ يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون‏.‏ وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال‏:‏ الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 24‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال ابن جرير في معنى الختم‏:‏ والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏ إنّ المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه ‏"‏ فذلك الران الذي قال الله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 14‏]‏»‏.‏ وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه، والنسائي‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع، فلا يكون إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو‏:‏ الختم الذي ذكره الله في قوله‏:‏ ‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ‏}‏ نظير الطبع، والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلها، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ خاتمه، وحلّ رباطه عنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة؛ لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار‏.‏ وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس، وهو‏:‏ الحركة، يقال‏:‏ ناس ينوس‏:‏ أي تحرّك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، و«من» تبعيضية‏:‏ أي بعض الناس، و«من» موصوفة‏:‏ أي ومن الناس ناس يقول‏.‏ والمراد باليوم الآخر‏:‏ الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً‏.‏ والخداع في أصل اللغة‏:‏ الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد‏:‏

أبيض اللون رقيقٌ طعمه *** طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ

وقيل‏:‏ أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس، وغيره‏.‏ والمراد من مخادعتهم لله‏:‏ أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع‏.‏ وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم‏.‏ والمراد بالمخادعة من الله‏:‏ أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه‏.‏ والمراد بمخادعة المؤمنين لهم‏:‏ هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر‏.‏

والمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يخادعون إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن‏.‏ وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال‏:‏ من خادعته فانخدع لك فقد خدعك‏.‏ وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يخادعون‏}‏ في الموضعين، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني ‏{‏يخدعون‏}‏‏.‏ والمراد بمخادعتهم أنفسهم‏:‏ أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة، وهي كذلك تمنيهم‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ شعرت بالشيء فطنت‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار ومشاعر الإنسان‏:‏ حواسه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له‏.‏ والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ والمراد بهذه الآية المنافقون‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال‏:‏ لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له‏:‏ ما النفاق‏؟‏ قال‏:‏ أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به‏.‏

وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة، «أن قائلاً من المسلمين قال‏:‏ يا رسول الله ما النجاة غداً‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ لا تخادع الله ‏"‏ قال‏:‏ وكيف نخادع الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء‏:‏ يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضلّ عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن ‏"‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ الآية، و‏{‏إِنَّ المنافقين يخادعون الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال‏:‏ سألت ابن زيد عن قوله‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه‏.‏ وعن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يخادعون إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله ‏{‏يخادعون الله‏}‏ قال‏:‏ يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

المرض‏:‏ كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس‏.‏ وقيل‏:‏ هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها، مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب، لما كانوا عليه من شدّة الحسد، وفرط العداوة‏.‏ والمراد بقوله ‏{‏فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏ الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية‏.‏ ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق‏.‏ والأليم المؤلم أي‏:‏ الموجع، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ مصدرية أي‏:‏ بتكذيبهم وهو‏:‏ قولهم ‏{‏آمنا بالله وباليوم الآخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله ‏{‏مرض‏}‏، إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه‏:‏ قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم، والكسائي ‏{‏يَكْذِبُونَ‏}‏ بالتخفيف، والباقون بالتشديد‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ شكّ ‏{‏فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏ قال‏:‏ شكاً‏.‏ وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ النفاق ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ نكال موجع ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ قال‏:‏ يبدّلون ويحرفون‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ كل شيء في القرآن أليم، فهو الموجع‏.‏ وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ ريبة وشكّ في أمر الله ‏{‏فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏ ريبة وشكاً ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ‏}‏ قال‏:‏ إياكم والكذب فإنه باب النفاق‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال‏:‏ هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون‏.‏ والمرض‏:‏ الشك الذي دخل في الإسلام‏.‏ وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض‏:‏ الرياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إذا‏}‏ في موضع نصب على الظرف والعامل فيه ‏{‏قالوا‏}‏ المذكور بعده‏.‏ وفيه معنى الشرط‏.‏ والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها‏.‏ فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد‏.‏ والمراد في الآية‏:‏ لا تفسدوا في الأرض بالنفاق، وموالاة الكفرة، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع‏.‏

و ‏{‏إنما‏}‏ من أدوات القصر، كما هو مبين في علم المعاني‏.‏ والصلاح ضد الفساد‏.‏ لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو‏:‏ الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ؛ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّاً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏‏.‏ وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم، وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد‏.‏ ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الفساد هنا هو‏:‏ الكفر والعمل بالمعصية‏.‏ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال‏:‏ إذا ركبوا معصية فقيل لهم‏:‏ لا تفعلوا كذا قالوا إنما نحن على الهدى‏.‏ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان؛ أنه قرأ هذه الآية فقال‏:‏ لم يجئ أهل هذه الآية بعد‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى‏.‏ ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح؛ لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

أي‏:‏ وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءاً واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول‏.‏ وحصر السفاهة وهي‏:‏ رقة الحلوم وفساد البصائر، وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك، إما حقيقة أو مجازاً، تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، وأنهم متصفون به‏.‏ ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم؛ لأنه لا يتسافه إلا جاهل، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ إيماناً كإيمان الناس‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس‏}‏ أي‏:‏ صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنه نبيّ ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، ‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏ يعنون أصحاب محمد، ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء‏}‏ يقول‏:‏ الجهال ‏{‏ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يعقلون‏.‏ وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واهٍ أنه قال‏:‏ آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏ قال‏:‏ يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله‏.‏ وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود‏:‏ أي‏:‏ إذا قيل لهم، يعني اليهود ‏{‏ءامنوا كما آمن الناس‏}‏ عبد الله بن سلام، وأصحابه ‏{‏قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏لَقُواْ‏}‏ أصله لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء، لالتقاء الساكنين‏.‏ ومعنى لقيته ولاقيته‏:‏ استقبلته قريباً‏.‏ وقرأ محمد بن السميفع اليماني، وأبو حنيفة «لاقوا»، وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين‏.‏ وخلوت بفلان وإليه‏:‏ إذا انفردت به‏.‏ وإنما عدي بإلى، وهو يتعدى بالباء فيقال‏:‏ خلوت به لا خلوت إليه؛ لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا‏.‏ والشياطين جمع شيطان على التكسير‏.‏ وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان، فجعلها في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن، أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شطّ، أي‏:‏ بعد أو شاط‏:‏ أي بطل، وشاط، أي احترق، وأشاط‏:‏ إذا هلك قال ‏[‏الشاعر‏]‏‏:‏

وقد يَشِيطُ علىَ أرمَاحِنا البَطَلُ *** أي يهلك‏.‏

وقال آخر‏:‏

وأبْيَضِ ذي تاجٍ أشَاطَت رِمَاحنُا *** لمَعْتَركٍ بين الفوَارِس أقتمَا

أي‏:‏ أهلكت‏.‏ وحكي سيبويه أن العرب تقول‏:‏ تشيطن فلان‏:‏ إذا فعل أفعال الشياطين‏.‏ ولو كان من شاط لقالوا‏:‏ تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

أيما شاطن عصاه عكا *** ه ورماه في السجن والأغلال

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ معناه مصاحبوكم في دينكم، وموافقوكم عليه‏.‏ والهزؤ‏:‏ السخرية واللعب‏.‏ قال الراجز‏:‏

قد هَزِئَتْ مني أُم طيْسلَه *** قَالَت أرَاهُ مُعْدمَاً لا مَال لَهُ

قال في الكشاف‏:‏ وأصل الباب الخفة، من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ‏:‏ مات على المكان‏.‏ عن بعض العرب‏:‏ مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني‏.‏ وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخفّ‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل أصله‏:‏ الانتقام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قد استهزءوا منهم بألفي مدجج *** سراتهم وسط الصحاصح جثم

فأفاد قولهم ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ‏}‏ ردّهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشئ من قولهم‏:‏ ‏{‏إنا معكم‏}‏ أي‏:‏ إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم؛ انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة‏.‏

وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه‏.‏ وورد ذلك في القرآن كثيراً، ومنه ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ والجزاء لا يكون سيئة‏.‏ والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه ‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ و

‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 15 16‏]‏ ‏{‏يخادعون الله والذين ءامَنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله لا يملّ حتى تملوا» وإنما قال ‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت، وهو‏:‏ أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت، المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ؛ لأنه يألفه، ويوطن نفسه عليه‏.‏ والمدّ‏:‏ الزيادة‏.‏ قال يونس بن حبيب‏:‏ يقال مدّ في الشر، وأمدّ في الخير، ومنه ‏{‏وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ مددت له إذا تركته، وأمددته‏:‏ إذا أعطيته‏.‏ وقال الفراء واللحياني‏:‏ مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال‏:‏ مدّ النهر، ومنه ‏{‏والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏ وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏ والطغيان مجاوزة الحدّ، والغلوّ في الكفر، ومنه ‏{‏إِنَّا لَمَّا طغى الماء‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان‏.‏ وقوله في فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24، 43‏]‏ أي‏:‏ أسرف في الدعوى حيث قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والعمه والعامه‏:‏ الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهى‏:‏ إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى‏.‏ والمراد‏:‏ أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏‏.‏ قال ابن جرير ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً‏.‏

وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعضهم قالوا‏:‏ إنا على دينكم ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم‏}‏ وهم إخوانهم قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ على مثل ما أنتم عليه ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ‏}‏ بأصحاب محمد ‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ يسخر بهم للنقمة منهم ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم‏}‏ قال‏:‏ في كفرهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ قال‏:‏ يتردّدون‏.‏ وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم‏}‏ قال‏:‏ رؤسائهم في الكفر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ مضوا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏ قال‏:‏ يملي لهم ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ قال‏:‏ في كفرهم يتمادون‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون‏.‏ وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد ‏{‏يمدهم‏}‏ يزيدهم ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ قال يلعبون ويتردّدون في الضلالة‏.‏ وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» فقلت‏:‏ يا رسول الله وللإنس شياطين‏؟‏ قال‏:‏ «نعم»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قال سيبويه‏:‏ صحت الواو في ‏{‏اشتروا‏}‏ فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو ‏{‏وألّوِ استقاموا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال الزَّجَّاج‏:‏ حركت بالضم كما يفعل في نحن‏.‏ وقرأ يحيى بن يَعْمُرُ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين‏.‏ وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها لخفة الفتحة‏.‏ وأجاز الكسائي همز الواو‏.‏ والشراء هنا مستعار للاستبدال‏:‏ أي‏:‏ استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ فإما أن يكون معنى الشراء المعاوضة، كما هو أصله حقيقة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين، فيبيعوا إيمانهم، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء‏.‏ قال أبو ذؤيب‏:‏

فَإن تزعميني كُنتُ أجهَلُ فيِكمُو *** فَإنِي شَرِيْتُ الحِلْمَ بَعْدك بِالجَهْلِ

وأصل الضلالة‏:‏ الحيرة، والجور عن القصد، وفقد الاهتداء، وتطلق على النسيان، ومنه قوله تعالى ‏{‏قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 20‏]‏، وعلى الهلاك كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ وأصل الربح الفضل‏.‏ والتجارة‏:‏ صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم‏:‏ ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو‏:‏ إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل، كما هو مقرّر في علم المعاني‏.‏ والمراد‏:‏ ربحوا وخسروا‏.‏ والاهتداء قد سبق تحقيقه‏:‏ أي‏:‏ وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة، وقيل في سابق علم الله‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أي‏:‏ الكفر بالإيمان‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال‏:‏ أخذوا الضلالة وتركوا الهدى‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ آمنوا ثم كفروا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ استحبوا الضلالة على الهدى، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مّثْلُهُمْ‏}‏ مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله ‏{‏كَمَثَلِ‏}‏ لأنها اسم‏:‏ أي مثل، مثل كما في قول الأعشى‏:‏

أتنتهون ولن تنهى ذوى شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقول

امرئ القيس‏:‏

ورحنا بِكَابنِ الماء يجنب وسطنا *** تصوّب فيه العين طوراً وترتقى

أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف‏.‏ والمثل‏:‏ الشبه، والمثلان‏:‏ المتشابهان و‏{‏الذى‏}‏ موضوع موضع الذين‏:‏ أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب، كقول الشاعر‏:‏

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أمّ خالد

ومنه ‏{‏وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ ومنه ‏{‏والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ووقود النار‏:‏ سطوعها وارتفاع لهيبها، و‏{‏استوقد‏}‏ بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

ودَاعٍ دَعا يا من يُجيب إلى الندا *** فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ

أي‏:‏ يجبه‏.‏ والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً‏.‏ و‏{‏مَا حَوْلَهُ‏}‏ قيل ما زائدة‏.‏ وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية، و‏{‏ذَهَبَ‏}‏ من الذهاب، وهو زوال الشيء‏.‏ و‏{‏*تركهم‏}‏ أي‏:‏ أبقاهم ‏{‏ظلمات‏}‏ جمع ظلمة‏.‏ وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل‏.‏ وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور‏.‏ و‏{‏صُمٌّ‏}‏ وما بعده خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي هم‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏"‏ صماً بكماً عمياً ‏"‏ بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله ‏{‏تركهم‏}‏‏.‏ والصمم‏:‏ الانسداد، يقال قناة صماء‏:‏ إذا لم تكن مجوّفة،‏.‏ وصممت القارورة‏:‏ إذا سددتها، وفلان أصمّ‏:‏ إذا انسدت خروق مسامعه‏.‏ والأبكم‏:‏ الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم، فهو الأخرس‏.‏ وقيل الأخرس والأبكم واحد‏.‏ والعمى‏:‏ ذهاب البصر‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلى الحق، وجواب لما في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءتْ‏}‏، قيل هو‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏ وقيل‏:‏ محذوف تقديره‏:‏ طفئت فبقوا حائرين‏.‏ وعلى الثاني فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏ كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر‏.‏

ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده‏.‏ وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت‏.‏ ومنه قولهم «للباطل صولة ثم يضمحلّ» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته، ومواعظه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال ابن كثير‏:‏ إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 3‏]‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال ‏{‏رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ في عذاب ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ فهم لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ قالوا‏:‏ إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى‏.‏ فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏ قال‏:‏ ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله ‏{‏ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن والسدي، والربيع بن أنس نحو ما تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين‏:‏ أي‏:‏ مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك، فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك وقيل‏:‏ إنها بمعنى الواو، قاله‏:‏ الفراء وغيره، وأنشد‏:‏

وَقَد زَعَمَت لَيْلى بأني فَاجِرٌ *** لِنَفسِي تقَاهَا أو عَلَيَها فُجُورَها

وقال آخر‏:‏

نال الخِلافَة أو كانت لَهُ قَدَراً *** كَمَا أتَى رَبَه ُموسَى على قَدَرٍ

والمراد بالصِّيب‏:‏ المطر، واشتقاقه من صاب يصوب‏:‏ إذا نزل‏.‏ قال علقمة‏:‏

فَلا تَعِدلِي بَيني وبَيَن مُعَمرَّ *** سَقَتْك رَوَايا الموتِ حَيْثُ تُصَوُب

وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في مِّيت وسِّيد‏.‏ والسماء في الأصل‏:‏ كل ما علاك فأظلك‏.‏ ومنه قيل لسقف البيت‏:‏ سماء‏.‏ والسماء أيضاً‏:‏ المطر؛ سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه‏:‏ لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان‏:‏

ديار من بني الحسحاس قفر *** تعفيها الدوامس والسماء

وقال آخر‏:‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** والظلمات قد تقدّم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم‏.‏ والرعد‏:‏ اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب‏.‏ وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال‏:‏ «سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ‏"‏ قالوا‏:‏ فما هذا الصوت الذي نسمع‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر ‏"‏ قالت‏:‏ صدقت» الحديث بطوله، وفي إسناده مقال‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، وقيل‏:‏ هو‏:‏ اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة، وجهلة المتكلمين، وقيل‏:‏ غير ذلك، والبرق‏:‏ مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة، وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق‏.‏ وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة‏:‏ إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم‏}‏ جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلاً قال‏:‏ فكيف حالهم عند ذلك الرعد‏؟‏ فقيل‏:‏ يجعلون أصابعهم في آذانهم‏.‏ وإطلاق الإصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الإصبع لا كلها‏.‏ والصواعق‏:‏- ويقال الصواقع‏:‏- هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إنها نار تخرج من فم الملك‏.‏ وقال الخليل‏:‏ هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه‏.‏ وقال أبو زيد الصاعقة‏:‏ نار تسقط من السماء في رعد شديد‏.‏ وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم‏:‏ إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها‏.‏ وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ماله مزيد فائدة وإيضاح‏.‏

ونصب ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏ على أنه مفعول لأجله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ منصوب على التمييز، والموت‏:‏ ضدّ الحياة‏.‏ والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه‏.‏ وقوله ‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم‏}‏ جملة مستأنفة، كأنه قيل‏:‏ فكيف حالهم مع ذلك البرق‏؟‏ ويكاد‏:‏ يقارب‏.‏ والخطف‏:‏ الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏يَخْطِفُ‏}‏ بكسر الطاء، والفتح أفصح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ‏}‏ كلام مستأنف كأنه قيل‏:‏ كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق، وسكونه‏؟‏ وهو‏:‏ تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب، ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ بالزيادة في الرعد، والبرق ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ وهذا من جملة مقدوراته سبحانه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ هو‏:‏ المطر ضرب مثله في القرآن ‏{‏فِيهِ ظلمات‏}‏ يقول ابتلاء ‏{‏وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏ تخويف ‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم‏}‏ يقول‏:‏ يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين ‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا‏:‏ كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان‏:‏ ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه أي‏:‏ فإذا كثرت أموالهم، وأولادهم، وأصابوا غنيمة، وفتحا مشو فيه، وقالوا‏:‏ إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، فكانوا إذا هلكت أموالهم، وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا‏:‏ هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ قال‏:‏ هو، المطر وهو‏:‏ مثل للمنافق في ضوئه، يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس، فإذا خلا، وحده عمل بغيره، فهو‏:‏ في ظلمة ما أقام على ذلك‏.‏ وأما الظلمات‏:‏ فالضلالات‏.‏ وأما البرق‏:‏ فالإيمان، وهم أهل الكتاب، وإذا أظلم عليهم‏:‏ فهو‏:‏ رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف‏.‏ وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين‏.‏

واعلم أن المنافقين أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما ‏"‏ ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه، واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ‏"‏ وورد بلفظ ‏"‏ أربع ‏"‏، وزاد «وإذا خاصم فجر»‏.‏ وورد بلفظ «وإذا عاهد غدر»‏.‏ وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين، والكافرين، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة‏.‏ و‏"‏ يا ‏"‏ حرف نداء، والمنادى ‏"‏ أيّ ‏"‏‏:‏ وهو اسم مفرد مبني على الضم، و‏"‏ ها ‏"‏ حرف تنبيه مقحم بين المنادى، وصفته‏.‏ قال سيبويه‏:‏ كأنك كررت «يا» مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا‏:‏ ها هو ذا‏.‏ وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس، والعبادة، وإنما خص نعمة الخلق، وامتنّ بها عليهم؛ لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً، فالكفار مقرُّون بأن الله هو‏:‏ الخالق ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ فامتن عليهم بما يعترفون به، ولا ينكرونه‏.‏ وفي أصل معنى الخلق، وجهان‏:‏ أحدهما التقدير، يقال‏:‏ خلقت الأديم للسقاء‏:‏ إذا قدّرته قبل القطع‏.‏ قال زهير‏:‏

ولأنت تفرى ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفرى

الثاني‏:‏ الإنشاء، والإختراع، والإبداع‏.‏ و‏"‏ لعل ‏"‏ أصلها الترجي، والطمع، والتوقع، والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم‏:‏ افعلوا ذلك على الرجاء منكم، والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه‏.‏ وقيل‏:‏ إن العرب استعملت ‏"‏ لعل ‏"‏ مجردة من الشك بمعنى لام ‏"‏ كي ‏"‏‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر‏:‏

وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا *** نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ

فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ *** كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ مَُتَألقِ

أي‏:‏ كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت ‏"‏ لعل ‏"‏ للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب‏.‏ وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال‏:‏ متعرّضين للتقوى‏.‏ و‏{‏جعل‏}‏ هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر‏:‏

وقد جعلت أرى الإثنين أربعة *** والأربع اثنين لما هدَّني الكبر

و ‏{‏فِرَاشاً‏}‏ أي‏:‏ وطاء يستقرون عليها‏.‏ لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم، ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وأصل البناء‏:‏ وضع لبنة على أخرى، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء‏.‏ وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها، وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان، فقلبت الهاء همزة‏.‏ والثمرات جمع ثمرة‏.‏ والمعنى‏:‏ أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات، وأنواعاً من النبات، ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين‏.‏ والأنداد جمع ندّ، وهو المثل والنظير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جملة حالية، والخطاب للكفار، والمنافقين‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف وصفهم بالعلم، وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال‏:‏ ‏{‏ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فيقال‏:‏ إن المراد أن جهلهم، وعدم شعورهم لا يتناول هذا، أي‏:‏ كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا، ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية‏.‏ وقد يقال‏:‏ المراد، وأنتم تعلمون، وحدانيته بالقوّة، والإمكان لو تدبرتم، ونظرتم‏.‏ وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج، وترك التقليد‏.‏ قال ابن فُورَك‏:‏ المَراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد‏.‏ انتهى‏.‏ وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد‏.‏

وقد أخرج البزار، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال‏:‏ ما كان ‏{‏يا ايها الذين آمنوا‏}‏ فهو أنزل بالمدينة، وما كان ‏{‏يُذْهِبْكُمْ يا أَيُّهَا الناس‏}‏ فهو أنزل بمكة‏.‏ وروى نحو ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه‏.‏ وروى نحوه أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر من قول علقمة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر عن الضحاك مثله‏.‏ وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن عروة، وعكرمة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الناس‏}‏ قال‏:‏ هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏ يعني «كي»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة؛ قال‏:‏ لعل من الله واجب‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله‏:‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ تمشون عليها وهي‏:‏ المهاد والقرار ‏{‏والسماء بِنَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ قال‏:‏ كهيئة القبة وهي سقف الأرض وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل‏:‏ المطر من السماء أم من السحاب‏؟‏ قال‏:‏ من السماء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن كعب قال‏:‏ السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، والبذر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال‏:‏ المطر ماء يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له‏:‏ الأبزم، فتجيء السحاب السود، فتدخله، فتشربه مثل شرب الإسفنجة، فيسوقها الله حيث يشاء‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة قال‏:‏ ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال‏:‏ المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر، فَيُعْذبُهُ الرعد والبرق‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال‏:‏ إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف، فكان لؤلؤاً‏.‏ وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي الدنيا في كتاب المطر، وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما من ساعةٍ من ليلٍ، ولا نهارٍ إلا والسماء تمطر فيها، يصرفه الله حيث يشاء ‏"‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعاً لرأيتموه‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ المطر‏.‏ مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة، وإن قلّ المطر، وإذا قلّ المزاج قلت البركة، وإن كثر المطر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال‏:‏ ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر، ومن يرزقه، ومن يخرج منه مع كل قطرة‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً‏}‏ أي‏:‏ لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضرّ، ولا تنفع ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏أَندَاداً‏}‏ قال‏:‏ أشباهاً‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود ‏{‏أَندَاداً‏}‏ قال‏:‏ أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ‏{‏أنداداً‏}‏ قال‏:‏ شركاء‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال‏:‏ «قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء الله وشئت، قال‏:‏ ‏"‏ جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده ‏"‏ وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفى قالت‏:‏ «جاء حبر من الأحبار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال‏:‏ ‏"‏ وكيف‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ يقول أحدكم لا والكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من حلف، فليحلف بربّ الكعبة ‏"‏ فقال‏:‏ يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال‏:‏ ‏"‏ وكيف ذلك ‏"‏ قال‏:‏ يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن قال منكم ‏"‏ ما شاء الله قال ثم شئت ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ‏"‏ وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة‏:‏ «أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود فقال‏:‏ أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا‏:‏ وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله، وشاء محمد‏.‏ ثم مرّ برهط من النصارى فقال‏:‏ أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا‏:‏ وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد‏.‏ فلما أصبح أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، فقال‏:‏ ‏"‏ إن طفيلاً رأى رؤيا، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم، فلا تقولوها، ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول‏:‏ والله حياتك يا فلان وحياتي، وتقول‏:‏ لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، هذا كله شرك‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود قال‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول الله أي‏:‏ الذنب أعظم‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك ‏"‏ الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فِى رَيْبٍ‏}‏ أي‏:‏ شك ‏{‏مما نزلنا على عبدنا‏}‏ أي‏:‏ القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والعبد مأخوذ من التعبد، وهو التذلل‏.‏ والتنزيل التدريج، والتنجيم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ الفاء جواب الشرط، وهو‏:‏ أمر معناه التعجيز‏.‏ لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويبطل الشرك، عقبه بما هو‏:‏ الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحدّاهم بأن يأتوا بسورة من سوره‏.‏ والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاصّ، سميت بذلك، لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها‏.‏ و«من» في قوله ‏{‏مّن مّثْلِهِ‏}‏ زائدة لقوله ‏{‏فأتوا بسورة مثله‏}‏‏.‏ والضمير في ‏{‏مثله‏}‏ عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى‏:‏ فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدّق ما فيه‏.‏ وقيل يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى من بشر مثل محمد‏:‏ أي‏:‏ لا يكتب، ولا يقرأ‏.‏ والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو المعاون، والمراد هنا‏:‏ الآلهة‏.‏

ومعنى ‏{‏دُونِ‏}‏‏:‏ أدنى مكان من الشيء، واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ وله معان أخر، منها التقصير عن الغاية، والحقارة، يقال هذا الشيء دون‏:‏ أي‏:‏ حقير، ومنه‏:‏

إذا ما علا المرءُ رامَ العُلا *** وَيقنعُ بالدون من كان دُونا

والقرب يقال‏:‏ هذا دون ذاك‏:‏ أي‏:‏ أقرب منه، ويكون إغراء، تقول‏:‏ دونك زيداً‏:‏ أي خذه من أدنى مكان ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق بادعوا‏:‏ أي‏:‏ ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم، من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم، وبيان لانقطاعهم‏.‏ والصدق خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع، أو للاعتقاد أولهما على الخلاف المعروف في علم المعاني

‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ يعني فيما مضى ‏{‏وَلَن تَفْعَلُواْ‏}‏ أي‏:‏ تطيقوا ذلك، فيما يأتي، وتبين لكم عجزكم عن المعارضة ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ بالإيمان بالله، وكتبه، ورسله، والقيام بفرائضه، واجتناب مناهيه، وعبر عن الإتيان بالفعل، لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار، وجملة ‏{‏لن تفعلوا‏}‏ لا محل لها من الإعراب، لأنها اعتراضية، و‏"‏ لن ‏"‏ للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها؛ لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة، وفيما بعدها، وإلى الآن‏.‏ والوَقُود بالفتح‏:‏ الحطب، وبالضم‏:‏ التوقد أي‏:‏ المصدر، وقد جاء فيه الفتح‏.‏ والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها؛ لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا، فجعلت وقوداً للنار معهم‏.‏

ويدل على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ أي‏:‏ حطب جهنم‏.‏ وقيل المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل مالا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس، والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ جعلت عدّة لعذابهم، وهيئت لذلك‏.‏ وقد كرّر الله سبحانه تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها قوله تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 49‏]‏ وقال في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ وقال في سورة هود‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏ في سورة يونس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يُفْتَرِى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين * أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37- 38‏]‏‏.‏

وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو‏:‏ كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحق الأول، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه‏.‏

وقد أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من نبيّ من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ‏}‏ قال‏:‏ هذا قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ‏}‏ قال‏:‏ في شك ‏{‏مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ من مثل القرآن حقاً، وصدقاً لا باطل فيه، ولا كذب‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن مجاهد ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ‏}‏ قال‏:‏ مثل القرآن ‏{‏وادعوا شُهَدَاءكُم‏}‏ قال‏:‏ ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏شُهَدَاءكُمُ‏}‏ قال‏:‏ أعوانكم على ما أنتم عليه ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ‏}‏ فقد بين لكم الحق‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ‏}‏ يقول‏:‏ لن تقدروا على ذلك، ولن تطيقوه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد؛ أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن، ‏"‏ وقودها ‏"‏ برفع الواو الأولى، إلا التي في السماء ذات البروج ‏{‏النار ذَاتِ الوقود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 5‏]‏- بنصب الواو- وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال‏:‏ إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال‏:‏ «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ أوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج أحمد، ومالك، والبخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا‏:‏ يا رسول الله إن كانت لكافية‏؟‏ قال، فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهنّ مثل حرّها ‏"‏ وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج ابن ماجه، والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً، نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج مالك في الموطأ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال‏:‏ أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سواداً من القار‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ قال‏:‏ أي‏:‏ لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه‏.‏ والتبشير‏:‏ الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، وهي الجلدة الظاهرة، من البشر، والسرور‏.‏ قال القرطبي‏:‏ أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال‏:‏ مَن بشرني مِن عبيدي، فهو حرّ، فبشره واحد من عبيده، فأكثر، فإن أوّلهم يكون حرّاً دون الثاني، واختلفوا إذا قال‏:‏ مَنْ أخبرني مِن عبيدي بكذا، فهو حرّ، فقال أصحاب الشافعي‏:‏ يعمّ لأن كل واحد منهم مخبر، وقال علماؤنا‏:‏ لا؛ لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة، وذلك مختص بالأول‏.‏ انتهى‏.‏ والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول، فالخلاف لفظي‏.‏ والمأمور بالتبشير قيل‏:‏ هو‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو‏:‏ كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم «بشر المشائين» وهذه الجمل، وإن كانت مصدرة بالإنشاء، فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة، وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً، وأنشاء‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏، وليس هذا بجيد‏.‏

و ‏{‏الصالحات‏}‏ الأعمال المستقيمة‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم، وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنة تنال بالإيمان، والعمل الصالح‏.‏ والجنات‏:‏ البساتين، وإنما سميت جنات؛ لأنها تجنّ من فيها‏:‏ أي‏:‏ تستره بشجرها، وهو‏:‏ اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة‏.‏ والأنهار جمع نهر، وهو‏:‏ المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد‏:‏ الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى ‏{‏واسئل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ أي‏:‏ أهلها وكما قال الشاعر‏:‏

ونبئت أن النّارَ بَعْدَكَ أوقِدَتْ *** واستب بَعدَكَ يا كُليبُ المْجلِسُ

والضمير في قوله ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ عائد إلى الجنات؛ لاشتمالها على الأشجار، أي‏:‏ من تحت أشجارها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ‏}‏ وصف آخر للجنات، أو هو‏:‏ جملة مستأنفة كأن سائلاً قال‏:‏ كيف تمارها‏.‏ و‏{‏مِن ثَمَرَةٍ‏}‏ في معنى من أي ثمرة‏:‏ أي نوع من أنواع الثمرات‏؟‏ والمراد بقوله ‏{‏هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ أنه شبيهه، ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون، يشبه اللون، وإن كان الحجم، والطعم، والرائحة، والماوية مختلفة‏.‏ والضمير في «به» عائد إلى الرزق، وقيل‏:‏ المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً، فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول‏.‏

و ‏{‏متشابها‏}‏ منصوب على الحال‏.‏ والمراد بتطهير الأزواج أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض، والنفاس، وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا‏.‏ والخلود‏:‏ البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول، والمراد هنا الأوّل‏.‏

وقد أخرج ابن ماجه، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والبيهقي، وابن مردويه، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا هل مشمر للجنة‏؟‏ فإن الجنة لا خطر لها، هي‏:‏ وربّ الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة خضراء» الحديث‏.‏

والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين، وغيرهما‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك» وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو حاتم، وأبو الشيخ، وابن حبان، والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه، موقوفاً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ قال‏:‏ يعني المساكن تجري أسفلها أنهارها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً‏}‏ قال‏:‏ أتوا بالثمرة في الجنة، فنظروا إليها ‏{‏قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَأُتُواْ بِهِ متشابها‏}‏ في اللون والمرأى، وليس يشبه الطعم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن علي بن زيد، وقتادة نحوه‏.‏ وأخرج مسدد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة قال‏:‏ قولهم ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ معناه‏:‏ هذا مثل الذي كان بالأمس‏.‏ وأخرج ابن جرير عن يحي بن أبي كثير، نحوه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال ‏{‏متشابها‏}‏ في اللون مختلفاً في الطعم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الحسن في قوله ‏{‏متشابها‏}‏ قال‏:‏ خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله‏.‏

وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ»

قال‏:‏ «من الحيض، والغائط، والبزاق، والنخامة»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ من القذر، والأذى‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود قال‏:‏ لا يحضن، ولا يحدثن، ولا يتنخمن‏.‏ وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين، وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون‏.‏ وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة مالا يتسع المقام لبسطه، فلينظر في دواوين الإسلام، وغيرها‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ أي‏:‏ خالدون أبداً، يخبرهم أن الثواب بالخير، والشرّ مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ يعني لا يموتون‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم‏:‏ يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، كل هو‏:‏ خالد فيما هو فيه» وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه‏.‏

وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو قيل لأهل النار‏:‏ إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة‏:‏ إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل لهم الأبد»‏.‏